بسم الله الرحمن الرحيم.. قد يعجب الإنسان ممن يسب أخاه أو صديقه ويستنكر عليه ويلومه على ذلك، ويزداد اللوم لمن يسب من هو أعلى منه مكانة وقدرًا كمن يسب أستاذه أو والده فإنَّ هذا يعتبر من دناءة النفس وحقارتها، وقد يهون ذلك أمام ما هو أسوأ منه وأفحش.
فما لا يقبل بحال من الأحوال، ولا يعذر صاحبه أبدا، وتخرُّ له الجبال هدَّا، وجزاؤه أنْ يمدَّ الله له من العذاب مدَّا، هو مَنْ يسب الدِّين الذي شرعه الله عز وجل أو يسب ربَّه وخالقه، فلا أدري ماذا يقال عن هذا؟
الإنسان العاقل عندما يعادي أحدًا أو يعتدي عليه يراعي في ذلك إمكانياته وقدراته حتى لا يدخل في صفقة خاسرة مع مَنْ أساء إليه، فهل لأحد طاقة بقيُّوم السموات والأرض حتى يتجرَّأ عليه بهذه الطريقة؟ وهو القائل في الحديث القدسي (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًَّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ) ([1])، هذا فيمن عادى وليًا من أولياء الله فكيف بمن يسب الذَّات الإلهيَّة ويعادي قيُّوم السموات والأرض؟!
وإذا كان النابغة الذبياني عندما هرب من النعمان بن المنذر ملك الحيرة قال عنه:
فَإِنَّكَ كَالليلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي... .. وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ المُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ
فماذا عن قدرة الله وإحاطته بعباده الذين قد أحصاهم وعدَّهم عدَّا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا. .
وعجبًا لهؤلاء مالهم لا يرجون لله وقارا، وقد خلقهم أطوارا، فماذا لو جاءهم بأسُهُ بياتًا أو نهارا، ألم يروا كم أهلك مِنْ قبلهم ممن عصوه واستكبروا استكبارا، ومالهم لا يقدرون الله حقَّ قدره، فبدلًا من أن يشكروا نعمة اللسان بالتسبيح بحمد الله والتقديس له، يتفوَّه أحدهم بالسبِّ واللعن.
وإذا كان الله الودود قد تكفل لعباده وهو الغني عن العالمين بأن من ذكره وحمده أن يشرِّفه الله عز وجل ويذكره ويكون معه، ففي الحديث القدسي: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَة) ([2]).
قال الحافظ ابن حجر: أي إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سرًَّا ذكرته بالثواب والرَّحمة سرًَّا، وقال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون مثل قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} ومعناه: اذكروني بالتعظيم أذكركم بالانعام وقال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} أي أكبر العبادات فمن ذكره وهو خائف آمنه، أو مستوحش آنسه، قال تعالى: (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ([3]).
فكيف يغفل أحد عن هذا، بل ويقوم بسبِّ خالقه أو دينه؟
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا}.
وقد استعمل (يُؤْذُونَ) هنا في معنييه المجازي والحقيقي، فهو حقيقة في تعديته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومجاز في تعديته إلى اسم الله تعالى على معنى المجاز المرسل في اجتلاب غضب الله، إذ لا أحد يستطيع إيذاء الله جلَّ وعلا فهو القائل في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِى مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ) ([4]).
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.
فمَنْ أحسن فقد أحسن لنفسه ومن أساء فعليها، قال تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)، وقد سُئل بشر بن الحارث ما كان بدء أمرك لأنَّ اسمَك بين الناس كأنه اسمُ نبي؟ قال: هذا من فضل الله وما أقول لكم، كنت رجلًا عيارًا صاحب عصبة فجزت يومًا فإذا أنا بقرطاس في الطريق فرفعته فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم، فمسحته وجعلته في جيبي وكان عندي درهمان ما كنت أملك غيرهما، فذهبت إلى العطارين فاشتريت بهما غالية ومسحته في القرطاس، فنمت تلك الليلة فرأيت في المنام كأنَّ قائلًا يقول لي: يا بشر بن الحارث رفعتَ اسمَنا عن الطريق وطيَّبته لأطيبنَّ اسمَك في الدُّنيا والآخرة، ثم كان ما كان ([5]).
وقد جاء النهي عن سب الكثير من المخلوقات، فكيف بالخالق جلَّ وعلا، مثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن سب الريح إذ قال: (لاَ تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا مَا تَكْرَهُونَ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ، إِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الرِّيحِ، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ، وَمِنْ شَرِّ مَا فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا أُمِرَتْ أُرْسِلَتَ بِهِ.) ([6]).
ونهى صلى الله عليه وسلم عن سب الديك فقال: (لاَ تَسُبُّوا الدِّيكَ فَإِنَّهُ يُوقِظُ لِلصَّلاَةِ) ([7]).
وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِى بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ). قَالَ عِمْرَانُ فَكَأَنِّى أَرَاهَا الآنَ تَمْشِى فِى النَّاسِ مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ ([8]).
وإذا كان رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم والجهر له بالقول محبط للعمل، فكيف بسب الدِّين أو الله عز وجل.
قد يتعلَّل الكثير ممن يتفوَّه بذلك بأنَّه يفقد أعصابه ولا يضبط نفسه عند الغضب، ويقال لهؤلاء: لماذا تتحفظون أشدَّ التحفظ وتحتاطون كلَّ الحيطة من التكلُّم على مَنْ أنتم تحت سلطته في الدنيا من ملك أو رئيس وهل قمتم بسب هؤلاء على مرأى ومسمع منهم حتى في حالات الغضب؟ فكيف استطعتم أن تضبطوا أنفسكم في هذه الحالة؟ ولم تستطيعوا ضبطها فيما هو أشد منها؟ أم أنكم تخشون الناس أشد خشية من ربكم؟
إن انعدام التربية أو ضعفها هو سبب رئيسي لهذا الفساد والانحطاط السلوكي، فمن كان في بيئة منحطة دينيًا أو أخلاقيًا ولم يجد من يوجهه التوجيه الصحيح فغالبًا ما يكون سلوكُه سلوكَ مَنْ عاش معهم كما قال القائل:
وَمَا أَنَا إِلا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ... .. غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشَدِ
فالإنسان غالبًا ابن بيئته إلا من رحمه الله وتداركه بلطفه.
ومن أهم الحلول التي أراها للحد من هذه الظاهرة:
1- تعظيم الله في قلوب الناس وذلك يكون بالتربية على حبِّ الله عز وجل وتعظيمه والتخويف من عقابه؛ لأنَّه إذا ثبت تعظيم الله في قلب العبد أورثه الحياء من الله والهيبة له، فغلب على قلبه ذكر اطلاع الله العظيم ونظره بعظمته وجلاله إلى ما في قلبه وجوارحه وذكر المقام غدًا بين يديه وسؤاله إياه عن جميع أعماله وذكر دوام إحسانه إليه وقلة الشكر منه لربه فإذا غلب ذكر هذه الأمور على قلبه غلب عليه الحياء من الله فاستحى من ذلك.
2- تبيين خطورة هذا الأمر وأنَّه ردة عن الدِّين، وقد ذكر الكثير من الفقهاء الإجماع على ذلك، قال القاضي عياض: لا خلاف أنَّ سابَّ الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم ([9]). وقال الإمام ابن تيمية: فصل فيمن سب الله تعالى، فإن كان مسلمًا وجب قتله بالإجماع؛ لأنَّه بذلك كافر مرتد، وأسوأ من الكافر، فإنَّ الكافر يعظِّم الرب، ويعتقد أنَّ ما هو عليه من الدِّين الباطل ليس باستهزاء بالله ولا مسبَّة له ([10]). وقال الإمام ابن قدامة: من سب الله تعالى كفر، سواء كان مازحًا أو جادًا ([11]). وقال الإمام ابن رجب: فلو سبَّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو مقرٌّ بالشهادتين، أُبيح دمُه؛ لأنَّه قد ترك بذلك دينه ([12]).
3- الأخذ على يد من يفعل ذلك، وعقوبته العقوبة الرادعة فمَنْ أمن العقوبة أساء الأدب.
وينبغي الاحتساب على من يفعل ذلك من الكتاب أو المفكرين أو أدعياء الأدب بأن يرفع أمرهم إلى القضاء، ويحاكموا على ذلك، وينالوا العقاب الرادع، فليس من الحرِّيةَ في شيء أن يعتدى على مقدَّسات الأمّة، ويهان دينهم، وتجرح مشاعرهم.
4- الحث على ضبط النفس عند الغضب، والتوبة النصوح إلى الله تعالى إن بدر من الإنسان مثل ذلك، فلا خير فيمن يستفزه أي أمر فيخرج به عن عقله ودينه، ويتفوه بما يوقعه في سخط ربه وما لا تحمد عقباه في دنياه وآخرته.
5- التحذير من خطر اللسان فهو الذي يوقع صاحبه في كثير من المهالك، فمثل هذا الكلام من أسوأ محبطات الأعمال، وموجبات العذاب والنكال، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ) ([13])، وقال أيضًا: (وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ) ([14])، وقال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
6- هجر من يفعل ذلك إن كان ينفع معه هذا الأسلوب ويرتدع به.
هذا وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
------------------------------------
([1]) ـ رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب التواضع، (6137).
([2]) ـ رواه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، (7405)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب الحث على ذكر الله، (6981).
([3]) ـ فتح الباري 13: 386.
([4]) ـ رواه مسلم في كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم الظلم، (6737).
([5]) ـ رواه أبو نعيم في الحلية 8: 336.
([6]) ـ رواه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في النهي عن سب الرياح، (2252) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي في الكبرى (10703).
([7]) ـ رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما جاء في الديك والبهائم (5103).
([8]) ـ رواه مسلم في كتاب البر والصلة والأدب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها، (6769).
([9]) ـ الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2: 270.
([10]) ـ الصارم المسلول: 546.
([11]) ـ المغني 10: 103.
([12]) ـ جامع العلوم والحكم: 130.
([13]) ـ رواه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، (2616) وقال: حديث حسن صحيح.
([14]) ـ رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، (6478).
الكاتب: عمر بن عبد المجيد البيانوني